خلف محمد : قراءه نفسيه لقصة محمد الأسلاميه ..




خلف محمّد (قراءة نفسيّة) 

الجزء الأول 

تحيّة طيّبة،

سأحاول في هذه المقالة الاعتماد على السيرة العربيّة وحدها [دون النظر إلى الشهادات الأجنبيّة المعاصرة لها أي كيف قدّمت لنا السيرة النبيّ محمّد] و قراءة الأحداث من منظور تاريخيّ نقديّ بعد إزالة الأصباغ و الماكياج عنها، و قراءة اللامقول المختفي بين السطور.

أقدّم ثلاثة مشاهد:

المشهد الأوّل: (الأبواء، بين مكّة و المدينة)

محمّد الطفل له ستّ سنوات من العمر و جالس قرب جسد أمّه التي توفّيت منذ قليل، كان يبكي عليها بكاء شديدا، فاليوم صار يتيم الأبوين بلا صدر حنون يعود إليه.

المشهد الثاني: (قرب مكّة، غار حراء)

محمّد يبلغ من العمر أربعين عاما و يسمع صوتا لا مرئيّا يكلّمه، و صار نومه متقطّعا، و يرى كوابيس مزعجة، و حين يخرج إلى الخلاء يسمع الأحجار تحدّثه، إلخ..

المشهد الثالث: (حصون بني قريظة، المدينة)

محمّد جالس مع بعض صحابته يتابعون عقاب اليهود، فيأتون بهم ثلّة ثلّة و يقطعون رؤوسهم في حفرة كبيرة، و قد تواصل المهرجان يوما كاملا حتى قتلوهم عن آخرهم ، و الروايات المقلّة تقول كانوا ستّمائة نفس، و إذا سلّمنا بأنّ اليوم يتكوّن من 14 ساعة (من شروق الشمس إلى غروبها) فإنّ المعدّل كان قطع 43 رأسا في الساعة ، و إذا طرحنا أوقات الصلاة (الاجباريّة) و فترات الراحة و هتافات الجمهور المتابعين للمهرجان فإنّنا نصل تقريبا إلى رأسين في الدقيقة، و بعدها دخل محمّد بزوجة لأحدهم و تقاسموا الغنائم و باعوا البقيّة (النساء و الصبيان)

ماالذي حدث في شخصيّة محمّد اليتيم و تحوّله من الدعوة بالحسنى في مكّة إلى الدمويّة في المدينة؟

لماذا ترك كتّاب السيرة هذه الأخبار تصلنا؟

هذه الأسئلة و غيرها سنتناولها في هذا المقال و نتتبّع التطوّر النفسيّ و الاجتماعيّ عند محمّد.

منهجي في هذا المقال هو الابتعاد قدر الإمكان عن الـ chronocentrisme (و هو قراءة أو نقد التاريخ وفق ثقافتنا الحاليّة، أو إسقاط قيمنا المعاصرة على قيم أخرى في فترة ما من التاريخ) و كذلك الإبتعاد قدر الإمكان عن الـ ethnocentrisme

كما أنّي لم أعتمد على أيّ مصدر تاريخيّ غير إسلاميّ.

المراجع المستعملة جعلتها على شكل روابط مباشرة إلى المصدر إلاّ إذا كان الكتاب ورقيّا فإنّي أشير إليه كتابةً.

..................................

هناك منهجان متضادّان في قراءة البنية النفسيّة لمحمّد:

المنهج الأوّل:(لاديني)

و من مؤسّسي هذا المنهج هو Maxime Rodinson في كتابه محمّد و يعتمد على الأحداث التي أسّست الشخصيّة و كيفيّة تفاعلها مع محيطها الخارجي.

المنهج الثاني: (ديني)

يتبنّاه مالك بن نبيّ و يقرأ الوحي و الشخصيّة المتلقّية له من وجهة نظر ظواهريّةphénomenologique و عصبيّة-نفسيّة و يفصل بين الأنا المتلقّية و بين الوحي.

و نحن هنا سنتبنّى وجهة النظر اللادينيّة.

ليس لنا معلومات كثيرة عن طفولة محمّد و لا عن سنّ المراهقة (و هي مهمّة جدّا في تكوين الشخصيّة) و السيرة تعطينا فلاشات عن ولادته،وفاة أبيه، رضاعته،ضياعه مرّة و هو طفل فوجدوه مع ورقة بن نوفل، وفاة أمّه، خروجه مع عمّه للتجارة و هو صبيّ، تجارته و هو شابّ، زواجه من خديجة، تعبّده في غار حراء، نزول الوحي، دعوته، هجرته إلى يثرب، و هنا تحديدا تتسلّط كلّ الأضواء عليه في المدينة فأفرط كتاب السيرة في الحديث عنه حتى كادوا لا يتركون شيئا من حركاته و لا سكناته إلاّ و ذكروها.

لم تكن طفولة محمّد طفولة عاديّة فقدْ فقدَ أباه ثمّ أمّه ثمّ جدّه و هو طفل إلى أن حطّ به الرحال أخيرا في بيت عمّه عبد مناف، و قد يرى البعض أنّ هذه الطفولة الحزينة ساهمت في بثّ بعض الجروح و الاهتزازات في نفسيّة الطفل و ظلّت قابعة حينا من الزمن، و قد يرى البعض الآخر أنّ هذا كلّه كان من عند الله لتحضيره لتلقّي الوحي فيما بعد و العطف على اليتامى.

تجدر الإشارة إلى أنّ كتب السيرة بلا استثناء، لا تذكر أيّ حادثة عنف عن عمّه عبد مناف (أبو طالب) بل تقدّمه على أنّه شخص هادئ، متفهّم، حنون، و لا تذكر أيّة حالة غضب له، و هو شجاع و صاحب مبادئ، و اهتمّ بمحمّد أحسن اهتمام و حمله معه في تجارته، بل حتى حين بدأت الأفكار "العجيبة" تراود ذهن محمّد فيما بعد حين كبر، لم يتخلّ عنه و تفهّمه و حماه.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا قفز بنا كتّاب السيرة من "مشهد خروجه مع عمّه للتجارة" مباشرة إلى سنّ العشرينيّات؟ أين ذهبت فترة المراهقة؟ خاصّة إذا لاحظنا أنّ كتّاب السيرة لا يعوزهم الخيال و لا الحيلة في نسج القصص؟ و الأغرب هو أنّه لم يهتمّ أحد من المستشرقين بمحمّد المراهق و أغلبهم يركّزون على سنّ الأربعينيّات فما بعدها.

الجواب واضح:لم يهتمّوا به لأنّه لا يهمّهم فالهدف هو محمّد النبيّ و الإسلام أمّا محمّد الإنسان كطفولة و مراهقة فلا يبدو مهمّا!

و يحقّ لنا أن نتساءل ماذا كان يعمل محمّد في تلك السنّ؟ هل كان راعيا؟

عادة ما يكون الرعاة من الطبقة السفلى في المجتمع المدنيّ، و مكّة هي مدينة قائمة بذاتها و تحكمها ضرورات اقتصاديّة و تجاريّة مع البلدان الأخرى و بالتالي هناك نظام رأسماليّ يحكمها من أصحاب رؤوس المال و عبيد و وسائل نقل (الجمال) و رعاة لها و مخازن لحفظ البضاعة إلخ، لذلك فإنّه من الخطأ القول أنّ العرب تعني "البدو" فلا يمكن المقارنة بأيّ حال من الأحوال بين مكّة و الطائف و المدينة مثلا و بين تجمّعات قبليّة متناثرة تحت الخيام، بين المجتمع الحضريّ و بين مجتمع الأعراب أو البادية، و إن كانوا يشتركون في العديد من القيم المشتركة العربيّة كالولاء القبلي و الثأر و تقديم العشيرة و غيرها فإنّ هذا التشارك يتجلّي بطريقة مختلفة في البدو و الحضر.فقد يستطيع شخص بقدراته الذاتيّة- في مكّة- و دهائه و رأس ماله أن يكون من علية القوم رغم أصله المجهول كعمرو بن العاص مثلا.

فقد كان في مكّة أيضا مجلس الحكماء (senate) و الحكم لا يعود لرجل واحد فقط و إنّما بالإجماع (هذه القيم تسمّى الآن عصر الجاهليّة!) و بالطبع فإنّ التنظيم الاجتماعيّ سيكون موازيا لهذه الحركة الاقتصاديّة و يكون للمرأة دور فاعل فيها حيث نرى أيضا سيّدة أعمال "خديجة" قائمة بنفسها و تعيش وحدها دون أن تكون بالضرورة تحت قوامة رجل، بل كان منهنّ نبيّات يستطعن استنهاض قبائل كاملة، و شاعرات، بل و كان لبعض النسوة عشّاق آخرين تحت سمع المجتمع و بصره، و قد تراجع العديد من الباحثين الأجانب عن فكرة وأد البنات "1"و رأوا أنّهم عمّموها على الجزيرة العربيّة و يرون أنّها وجدت في منطقة محدودة و إثر مجاعة.

لذلك حين نتحدّث عن غزوات القبائل أو البدو أو إلخ فإنّه يجب تحديد المنطقة التي نتحدّث عنها لأنّ العلاقات الاجتماعيّة و الاقتصاديّة مختلفة من منطقة إلى أخرى و من بنية إلى أخرى. كما أنّ هذا المجتمع التجاريّ في مكّة يكون أقلّ عنفا و أكثر تهذيبا، ليس فقط من الناحية التنفيذيّة (الشرطة) و إنّما أيضا من الناحية الثقافيّة و لنا في الثلاث عشرة سنة التي قضاها محمّد في مكّة يدعو لم يتعرّض فيها لطعنة سيف أو سهم غادر من بعيد رغم مقدرتهم على ذلك و لم يتجاوز الأمر مجرّد شتائم أو مضايقات جسديّة عابرة بالأيدي لكن لم يصل إلى حدود القتل و إهدار الدم.(سنورد قصّة محاولة القتل و فداء عليّ بنفسه في أوانها)

إذن فإنّ مهنة رعي الأغنام في مجتمع رأسماليّ كمكّة تكون للطبقة العاملة و لا ترقى إلى قيمة أو قدر أصحاب المال، لكنّ المشكلة هنا هو كيف لراع أمّيّ فقير أن توظّفه امرأة أعمال في تجارتها (خديجة) و ترسله إلى البلدان الأخرى ليبيع و يشتري و يفاوض التجّار الآخرين، و هو من الطبقة الجاهلة الراعية للأغنام و لا خبرة لديه في التجارة؟

هذا يجعلنا نستبعد احتمال أن يكون راعيا(و ربّما اشتغل بالرعي مرّات عابرة) و نميل إلى أنّه كان يخرج مع القوافل و تعلّم أساليب البيع و الشراء و طبعا القراءة و الكتابة لتحرير العقود و إلاّ فإنّ خديجة ليست من البلاهة بمكان حتى ترسل تجارتها مع مبتدئ لا يفقه المهنة، و لا يكفي أن يكون أمينا و صادقا -كما جاء في السيرة- ليتمّ تكليفه بهذه المهمّة.

و قد بدأ خروج محمّد مع القوافل مبكّرا حيث ذهب مع عمّه الزبير إلى اليمن و هو ابن بضع عشرة سنة،"1" و لا يخفى علينا المعلومات التي سيكتسبها في مثل هكذا رحلات خاصّة في كيفيّة سير القافلة و الإهتداء بالنجوم و الطرق الآمنة و كذلك مفاوضات البيع و الشراء، ثمّ حين توفّي عمّه كان عمر محمّد أربع عشرة سنة فانفرد بتربيته أبو طالب.

و من الجنوب ننتقل إلى الشمال، فيخرج محمّد مع عمّه أبي طالب إلى الشام للتجارة،(ربّما خرج إلى الشام قبل اليمن، المهمّ أنّه خرج!) و كلّ هذه الرحلات من شأنها أن تصقل معارف محمّد في التجارة و تسيير القوافل، فلا نعجب حينها أن تقترح عليه امرأة أعمال تملك (شركة دوليّة للإستيراد و التصدير) العمل معها، فهو يملك خبرة في الرحلات و القوافل التجاريّة منذ طفولته، فيكون فعلا الرجل المناسب و ما كان لتخطئه عين تاجرة ثريّة كخديجة.

و قبل أن نواصل الحديث عن لقائه و زواجه من خديجة نعود قليلا إلى شخصيّتين ارتبطتا بشكل ما (أو ربطهما كتّاب السيرة العبّاسيون) بمهمّته كنبيّ فيما بعد.

الشخصيّة الأولى:

ورقة بن نوفل

تظهر هذه الشخصيّة مبكّرا في السيرة و قبل ولادة محمّد، حيث أنّ أخت ورقة بن نوفل و اسمها أمّ قتال بن نوفل راودت عبد الله (أبا محمّد)عن نفسه حين كان مارّا بجانب الكعبة، لكنّه رفض دعوتها و تزوّج بآمنة بنت وهب "2" فحملت بمحمّد.

ثمّ تعود هذه الشخصيّة للظهور مرّة أخرى، حين كان محمّد طفلا، حيث افتقدته أمّه فخرجوا للبحث عنه في مكّة، فكان أن وجده ورقة ابن نوفل مع شخص آخر غير مذكور في السيرة "3"

ثمّ تظهر هذه الشخصيّة فيما بعد عند نزول الوحي، كما يعرف الجميع، و سنعود إلى تلك الأحداث في أوانها.

الشخصيّة الثانية:

الراهب بحيرى

تظهر هذه الشخصيّة حين سافر محمّد مع عمّه إلى الشام و توقّفت القافلة ببصرى ، و انتبه لهم راهب يدعى بحيرى،و بشّر بنبوءة محمّد، و قد حذّر هذا الراهب أبا طالب قائلا:

"احذر عليه اليهود" "4"

و سنتوقّف قليلا هنا و نتساءل:

1-لماذا اليهود بالذات؟ و الحال أنّ الإسلام أقرب إلى اليهوديّة من المسيحيّة.

2-إن لم يقلها بحيرى، فلماذا قالها كاتب السيرة العباسيّ و ما هو دافعه؟

3-هل بحيرى هو شخصيّة تاريخيّة حقيقيّة؟

الظاهر أنّ الكاتب العباسيّ يسقط أحداث عصره على الماضي، نظرا لعدم الثقة التي كانت قائمة بين العرب و اليهود بعد الإسلام، و هذا الوضع لم يكن كذلك من قبل فقد كان اليهود يعيشون مع العرب جنبا لجنب قبل الإسلام، في اليمن، و في يثرب، إلخ

أمّا بحيرى فهو شخصيّة ليست مثبتة تاريخيّا، و ربّما وجدت فعلا، لكن -و في غياب الدلائل- فإنّنا سنتناول الأمر من وجهة نظر أخرى.

بالنسبة لذكر بحيرى في التراث الإسلامي فإنّ الغرض منه واضح و هو الإشارة إلى أنّ نبوّة محمّد كانت منتظرة من العديد من رجال الدين، كما أنّ هذا المنتظر يحمل علامات جسديّة معيّنة يُعرف بها -و هو ما لاحظه بحيرى- و هذا الربط بين "المختار المنتظر" و بين العلامات الجسديّة هو في الأصل مأخوذ من التراث اليهوديّ كمخطوطة قمران رقم 4Q534بالعبريّة"5"

و لفظ بحيرى بالسريانيّة يعني "المجرَّب" "6" و بالعبريّة يعني "المختار" و بالعربيّة "كثير العلم" ، و إن صحّ أنّ بحيرى هو راهب نسطوريّ سريانيّ فإنّ لقبه "المجرّب" هو الأصحّ، بيد أنّه تمّ أخذ هذا الإسم فيما بعد من الطرف المسيحيّ و ربطوه بكتاب "قيامة دانيال" المكتوب في بداية الألفيّة الأولى و الذي يذكر فيه الإسم على مقطعين بحير-رع :בחיר רע

أي "مختار الشرّ" كإشارة إلى تعليم هذا الراهب لمحمّد و بداية الشرّ أي الإسلام، كما تمّت كتابة "قيامة بحيرى" يتحدّث فيها الكاتب أنّ بحيرى علّم محمّدا، و هذا الكتاب منسوب لتلميذ بحيرى لكنّه يفتقد تماما للمصداقيّة التاريخيّة،حيث أنّ أقدم نسخة تعود للقرن التاسع ميلادي بالسريانيّة "7" و توجد اختلافات عديدة بين جميع النسخ العربيّة و السريانيّة و العبريّة و الأرمينيّة و اللاتينيّة، كما يذكر فيها اسماء الخلفاء العبّاسيّين تحت اسم موسى و هارون، في إشارة إلى موسى المهدي و هارون الرشيد. و مع ذلك فإنّ أقدم ذكر لبحيرى نفسه يعود لسنة 670 ميلادي "7"

أن يذكر لنا كتّاب السيرة، بعض الحوادث عن طفولة محمّد تدعّم نبوّته، كحلم آمنة، و حادثة شقّ صدره، و تنبّئ بحيرى بشأنه العظيم، فهذا أمر مفهوم و يدخل في باب الصورة التي يجب تقديمها عن محمّد، لكن لماذا تمّ ذكر حادثة ضياعه و هو طفل و عثور ورقة بن نوفل عليه؟

لماذا لم يذكروا إلاّ هذه المعلومة- من ضمن المعلومات النادرة -التي وصلتنا عن طفولته؟ و لماذا ورقة بن نوفل بالذات؟

لا جواب لنا.

و بعد هذه الفلاشات السريعة التي تقدّمها لنا السيرة عن طفولته -و التي لا تفيدنا في شيء- إلاّ ، ربّما، حادثة واحدة حينما كان يلعب مع الصبية و هو طفل فيرفعون ثيابهم لحمل الحجارة و كان محمّد يفعل مثلهم، فيكشفون عن عوراتهم، و فجأة شعر محمّد بشخص غير مرئيّ يلكمه قائلا:"شدّ عليك إزارك" ، قال: (أي محمّد) : فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي، وإزاري علي من بين أصحابي. "1" ، هذه القصّة -كما يقول ابن كثير في الصفحة نفسها- تتكرّر مرّة ثانية مع محمّد و هو شاب أثناء بناء الكعبة و كان ينقل الحجارة مع عمّه العبّاس و يرفع أيضا إزاره، و يرويها عمّه قائلا:"

قال: وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء تنقل الشيد، قال: فكنت أنا وابن أخي، وكنا نحمل على رقابنا، وأزرنا تحت الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا، فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي، قال: فخر وانبطح على وجهه، فجئت أسعى وألقيت حجري، وهو ينظر إلى السماء فقلت:، ما شأنك؟ فقام وأخذ إزاره قال:

((إني نهيت أن أمشي عرياناً)).

قال: وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون. "2"

نلاحظ الحضور القويّ للوازع الأخلاقيّ عند محمّد منذ شبابه في الرواية الثانية حتى أنّه سقط على الأرض و عيناه شاخصتان إلى السماء، كما أنّ هذه الهواتف أو الكائنات غير المرئيّة كانت تظهر له منذ بداية شبابه، و هو يكتمها عن الناس مخافة اتّهامه بالجنون، و ستزداد هذه "الرؤى" حدّة مع الوقت و تتمظهر في أشكال مختلفة فيما بعد، كسماعه لتسبيح الحصى، و تسليم الحجارة عليه حين يخرج إلى الخلاء، و طبعا رؤيته لجبريل، و سماع هواتف غير مرئيّة، إلخ، و هي ما يفسرها المنحى الديني بالوحي و النبوءة، بينما يفسرها المنحى العلمي بالشيزوفرينيا و تنطبق على أغلب الأنبياء الصادقين الذين لا يدّعون النبوّة كذبا و ليس فقط على محمّد، و قد حدث منذ سنوات أن نزل شخص إلى الشارع في نيويورك و بدأ في إطلاق النار على المارة، و حين ألقت الشرطة القبض عليه، أخبرهم أنّه سمع هواتف تأمره بذلك، و أنّه ينفّذ أمر الربّ، و طبعا حملوه مباشرة إلى مستشفى الأمراض العقليّة.

إذن، فإنّ محمّدا الذي يملك خبرة في التجارة بفضل رحلاته مع القوافل، "3" يلتحق للعمل مع خديجة، و يساهم في تحقيق أرباح لها، ممّا يدلّ على حنكته و إتقانه لمهنته.

الزواج:

يبدو للبعض أنّ زواج محمّد من خديجة هو زواج مصلحة، أي لأجل مالها، خاصّة أنّه شاب ابن خمس و عشرين سنة و هي ابنة أربعين سنة "4"، و هذا الكلام منطقيّ لكنّه لا يلمس الأمر من جميع جوانبه. فمن هي خديجة؟

هي خديجة بنت خويلد بنت أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب.

و محمّد هو ابن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب

فالإثنان يشتركان في جدّهما قصيّ مع بني أميّة

خديجة بنت خويلد كانت متزوّجة برجلين من قبل أن تتزوّج بمحمّد:

عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و أنجبت منه فتاة اسمها هند تزوّجت فيما بعد بابن عمّها صيفيّ بن أميّة "1".

و زوجها الثاني النباش بن زرارة و كنيته أبو هالة و أنجبت منه طفلين "2":هند (و هو ذكر) و هالة (و هو ذكر)و هناك اختلاف في الروايات في هذا الأمر

و عتيق، زوج خديجة الأوّل،(أو الثاني حسب الروايات) هو ابن عمّ الوليد بن المغيرة و هشام بن المغيرة والد أبي جهل.

لماذا تزوّج محمّد من خديجة؟

الجواب واضح:هو فقير و هي غنيّة

و لنا أن نتساءل أيضا:لماذا تزوّجت خديجة من محمّد؟

هي ليست بالفتاة الصغيرة الغريرة التي يستطيع شاب التأثير عليها كما أنّها تعرف الوضعيّة الإقتصاديّة لمحمّد بما أنّه يعمل عندها و هي لها تجربة في الحياة و تزوّجت مرّتين من قبل، فما الذي يدعو امرأة تاجرة و غنيّة مثلها إلى الزواج بشابّ صغير؟

لنضع الاحتمالات:

هل وقعت في حبّه؟

بعض الروايات تقول هذا، حيث أعجبت بأخلاقه و أمانته، لم لا؟ لكن خلف هذه الفتاة العاشقة توجد امرأة مجرّبة و حازمة أيضا و لا يوجد ما ينبئ في السيرة عن علاقة حبّ و هيام بينهما فتذهب ركضا و ترتمي تحت قدميه و يتبادلان الأشعار و رسائل الغرام.

هل كان جميلا فأرادته في فراشها؟

هي ليست محتاجة للزواج كي يكون لها عشيق، فحالتها الإقتصاديّة المستقلّة تسمح لها أن تتّخذ علاقة مع شخص من علية القوم دون زواج، خاصّة أنّ المجتمع المكّي كان يشهد هذه العلاقات حتى بين المتزوّجين، كالإشاعة التي تتحدّث عن علاقة عمر بن الخطّاب و هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان قبل الإسلام.

هل كانت تحتاج رجلا في حياتها؟

هذا هو الإحتمال الأقرب للمنطق، تحتاج رجلا يعينها على تربية الأطفال، ينوبها في أعمال التجارة، يطوّر لها مؤسّستها التجاريّة بسهولة بما أنّه رجل و مفاوضاته مع التجّار الرجال ستكون أسهل و قدرته على السفر جنوبا و شمالا، كما أنّها لا تستطيع ترك أبنائها و الذهاب بنفسها في رحلات شاقّة، فزواجها منه هو مصلحة لها أيضا و محمّد كذلك من عائلة عريقة و شريفة في مكّة و إن كان هو يستفيد من ثرائها فهي تستفيد من خبرته التجاريّة و شرف عائلته

يقول الطبري "3"

كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي امرأة تاجرةً، ذات شرف ومال، تستتجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريشٌ قوماً تجاراً

[نلاحظ هنا حاجتها لشخص أمين تثق به، و يا حبّذا لو كان زوجا لها لتمتين الروابط.]

وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة شريفة؛(..) فقالت له - فيما يزعمون - : يا بن عم، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك. ثم عرضت عليه نفسها، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً؛ كل قومهما كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليها.
فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة بن عبد المطلب عمه؛ حتى دخل على خويلد بن أسد، فخطبها إليه فتزوجها

و محمّد لم يتزوّج بها من أجل مصلحة ماليّة فقط، بل و مصلحة نفسيّة أيضا، فهو يتيم الأمّ، و خديجة تكبره كثيرا فهي زوجة و أمّ أيضا، و لم يكن يردّ لها طلبا كما جاء في السيرة، فمحمّد يعوّض هذا الجانب النفسيّ، خاصّة إذا رأينا لجوءه إليها و احتماءه بها حين نزل عليه الوحي أوّل مرّة، فهي زوجته و أمّه.

بعد زواج محمّد من خديجة، يقفز كتّاب السيرة خمس عشرة سنة إلى سنّ الأربعين وقت نزول الوحي و كأنّهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر الوصول إلى هذه المرحلة، ربّما بسبب نقص المعلومات لديهم قبل نزول الوحي فحاولوا قدر جهدهم تأليف بعض القصص المبشّرة بالنبوّة في سياق أدبيّ تصاعديّ.

و بين زواج محمّد و نبوّته يذكرون لنا حادثة مروره بقريش أثناء بناء الكعبة و اختلافهم فيمن ينال شرف رفع الحجر الأسود (النيزك) و وضعه في موضعه، فاتّفقوا على تحكيم أوّل عابر ، فكان -و يا محاسن الصدف- محمّد أوّل عابر (نلاحظ هنا أنّ تحكيمه -إن صحّ- وقع مصادفة)

و دون هذه الحادثة ، لا شيء.

هل ذكروا على الأقلّ شيئا عن تجارته و هل كبرت أم توسّعت أم أفلست؟

لا.

هل ذكروا شيئا عن حياته الإجتماعيّة؟

لا أيضا.

إنّهم ينتظرون سنّ الأربعين و فترة نزول الوحي و يقفزون السنوات قفزا، رغم قدرتهم الأدبيّة على نسج القصص و حبكها.

فقط نعلم أنّ خديجة وهبت (أهدت) لزوجها محمّد، مولى سريانيّا اسمه زيد بن حارثة،(الذي سيتزوّج محمّد امرأته فيما بعد) و لا يبدو أنّ محمّدا قد تمتّع بثروة خديجة، فلا تذكر السيرة أنّه اشترى دوابا أو امتلك عقارا أو أرضا ، كما أنّه لم يتزوّج عليها طيلة حياته معها، (هل كان عقد الزواج ينصّ على هذا؟) رغم رغبته الشديدة في ولد أو أولاد ذكور -كأيّ رجل عربيّ- و قد أنجب ستّة أولاد منها (ذكرين توفّيا صغارا و أربع بنات) و نلاحظ هنا تشبّث خديجة بزوجها و رغبتها في منحه طفلا ذكرا، فهي تجازف بحياتها رغم سنّها المتأخّرة و تحبل أربع مرّات ، و في كلّ مرّة كان المولود بنتا، و النساء في ذلك الزمن يعرفن خطورة الحمل في مثل هكذا سنّ و يعرفن أيضا كيفيّة منع الحمل، و رغم ذلك فخديجة كانت تريد منح زوجها ولدا ذكرا.

يرى البعض أنّ محمّدا كان تزوّج خديجة على الطريقة المسيحيّة و أنّ ورقة بن نوفل هو من كتب عقد القران، لذلك فلا يحقّ له الزواج بغيرها، و نحن نعارض هذا الكلام لضعفه الشديد و نرجّح أنّ ورقة و محمّدا كانا من الأبيونيّين و يؤمنان بالناموس الذي أنزل على موسى، و يحلّل التلمود الزواج بأربع نساء، و على كلّ حال لن نناقش المنطلقات العقائديّة لمحمّد في هذه السلسلة و سنقتصر فقط على المنطلقات النفسيّة.

ربّما كان عقد القران ينصّ على منعه من الزواج بأخرى و كانت خديجة لا ترضى بامرأة أخرى تقاسمها زوجها، لكنّ عدم إنجاب ذكر له ثقل نفسيّ على محمّد، حتى أنّ هناك من سينعته بالأبتر فيما بعد. و هذا قد يولّد شعورا باطنيّا بالظلم و بالحزن خاصّة حين تصبح زوجته عجوزا أو كما قالت عائشة:"وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين" (كأنّ عائشة تتهكّم من خديجة هنا و تنعتها بحمراء الشدقين، ربّما تقصد أنّها كانت تضع أحمر الشفاه و هي عجوز) ، هذا الشعور بالظلم يدفع محمّدا إلى الإنعزال الإجتماعيّ فيما بعد، فيتحنّث في غار حراء.

و قد أنجب زينب و عمره ثلاثون عاما و تزوّجت من أبي العاص بن الربيع "1" قبل نزول الوحي، و نلاحظ هنا أنّها تزوّجت دون سنّ العاشرة، و كذلك فاطمة تزوّجت بعليّ دون سنّ العاشرة، ممّا يجعلنا نرجّح أنّ زواج البنات في تلك السنّ كان أمرا شائعا و عاديّا، و بالتالي ليس بدعة أن يتزوّج محمّد بعائشة ذات التسع سنين، و هو ما ينقده العديدون لكن هذا خطأ لأنّنا نسقط قيم عصرنا على عصر آخر. و هو ما يسمّى في قراءة التاريخ: كرونوصونتريزم.

و قد تزوّج (خطوبة فقط؟) رقيّة و أمّ كلثوم من ابني أبي لهب، و الذان طلّقاهما فيما بعد حين تنبّأ محمّد، أمّا أبو العاص بن الربيع فلم يطلّق زينب، و قد كانا يحبّان بعضيهما و يقول الطبري "2"

وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع؛ إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر على أن يفرق بينهما؛ فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه
و قد وقع زوج زينب في الأسر يوم بدر ، فأرسلت تفديه، (و نرى هنا شدّة تعلّقهما) يقول "3" :

لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص ابن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها.

قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقةً شديدةً، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ! فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.

الصدمة: نزول الوحي.

انطلاقا من هنا سنبدأ في تحليل النفسيّة.

تعليقات

  1. Hard Rock Casino Nightclub at Borgata Hotel Casino & Spa Announces
    The Borgata Hotel Casino & Spa is proud 정읍 출장안마 to 원주 출장마사지 announce the return of the Hard Rock Jackpot Party! With all of 서산 출장안마 our hard 충주 출장샵 rock 동해 출장샵 venues hosting

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الرد على أكذوبة اعجاز مرج البحرين يلتقيان للكاتب طموح ..

اسيه بنت مزاحم : أستير بنت مردخاى أصل قصة ماشطة فرعون الأسلاميه

نقد القران : أرقى نقد للقران فى التاريخ